انسلخ النهار من ليلة التاسع و العشرين من يناير، نهار عصيب يسبق ليلة أعصب .
لم أكن قد أدركت وقتها مدى خطورة انسحاب الشرطة،عندما خرجت ذلك اليوم قاصدة مستشفى القصر العيني بعد أن علمت أن التمريض هناك بحاجة إلى المساعدة نظرا لكثرة المصابين الذين تم نقلهم إلى هناك جراء اعتداءات رجال الأمن عليهم أثناء التظاهر،فضلا عن احتياجهم الشديد لمتبرعين بالدم .
وصلت إلى قسم الطوارئ بالمستشفى ،وفوجئت بالأعداد الهائلة من الجرحى الذين لم تعد تسعهم أسرة المستشفى ،وعندها اغرورقت عيناي بالدموع وأنا أرى أولئك الجرحي ينزفون،ويصرخون ألما وهم يُحملون،وظل لساني يلهج بالدعاء على أولئك الظالمين، القتلة المتوحشين حتى وصلت إلى بنك الدم وهناك دمعت عيناي من جديد ، ولكن كانت دموع الفرح هذه المرة ... فلقد رأيت صفوفا تلو الصفوف من الشباب و الفتيات يقفون كل في انتظار دوره للتبرع بالدم .
وقفت في تلك الصفوف حتي أدركني الدور،استلقيت ومددت ذراعي للطبيب ثم ظللت أرقب في اعتزار ذلك الدم الذي يسحب من عروقي، كم كنت فخورة بأن دمي سيجري في جسد أحد أولئك الأبطال، الذي إن عوفي أكمل الطريق بدمي، وإن نال الشهادة فقد جري دمي يوما في جسد شهيد.
دقت الساعة الرابعة، غادرت المستشفى بسرعة حيث كان حظر التجوال قد بدأ منذ ساعة، الشوارع حولي تكاد تخلو من المارة، المحال التجارية مغلقة، القاهرة - فيما عدا ميدان التحرير- شبه مهجورة، وصلت إلى محطة رمسيس و اسقليت حافلة مع أربعة أشخاص فقط لم ينفكوا يتكلمون عن أعمال النهب و السطو المسلح على البيوت الذي بدأ منذ صبيحة اليوم، بدأ الخوف يتسلل إلي ّ رويداً رويداَ،إلى أن تملكني تماما عندما رأيت مجموعة من الشباب يلوحون بأسلحتهم البيضاء لسائق الحافلة لمجرد أنه حاول التوقف بجوارهم لإنزال أحد الركاب !
كان موقفا عجيبا بالنسبة لي لم أستطع تفسيره، إلا أنه تكرر بعد ذلك مرات ثلاث كان السائق يحاول فيها تهدئه سرعته لإنزال أحد من الركاب، والأدهى و الأمر أن السائق حاول الدخول إلى محطة وقود للتزود، فمنعه من ذلك شباب مسلحون أيضا !!!
عرفت ممن حولي أن هؤلاء الشباب يمثلون ماتم تسميته باللجان الشعبية، فبعد أن انسحبت الشرطة متخلية عن واجبها في حفظ أمن البلاد، بل و أطلقت المجرمين بعد تسليحهم فسطوا على المنازل و المراكز التجاريه، قام الشباب بتشكيل هذه اللجان الشعبية حيث وزعوا أنفسهم حول بيوتهم وفي الشوارع المؤدية إليها حاملين معهم ما تيسر لهم من سلاح كسكاكين المطبخ و عصي خشبية.
اضطر السائق للوقوف في طريق عريض خال من اللجان الشعبية، كان ذلك الطريق هو طريق النصر (الأتوستوراد) بجوار مستشفى المقاولون العرب، وطلب منا جميعا النزول لأنه بكل تأكيد لن يتمكن من استكمال طريقه.
نزلت من الحافلة و أنا أحاول السيطرة على أعصابي لأفكر كيف سأعود إلى البيت، ولكن الأحداث لم تمهلني....
رأيت جموعا عظيمة من البشر لا أكاد أرى اخرهم يركضون قادمين من بعيد، وقفت في مكاني مشدوهة بينما هم يقتربون و يقتربون، حتى تبين لي أنهما فئتان تقتتلان، أو بتعبير أدق تطارد إحداهما الأخرى، ارتعدت فرائضي وأنا أرى أولئك البلطجية وقد عصب أحدهم إحدى عينيه أو اعتلى وجهه ضربة سكين وبدت عليه سمات الإجرام!
استجمعت شجاعتي وركضت باتجاه أحد جنود الجيش الذي كان يقف في الجانب المقابل من الشارع لا يحرك ساكنا رغم ما يحدث حوله، وما أن وصلت إليه حتى قلت له بصوت أعياه الركض والفزع "هاتلي دبابة تروحني البيت حالا"، فابتسم متهكما من بلاهتي وهو يقول "معنديش أوامر بكدة!"، استطردت في ارتياع "إنتا مش شايف الشارع عامل إزاي، أنا هامشي لوحدي إزاي في وسط دول؟"، فأجاب بهدوء "ماتخافيش، ادخلي استني في الكشك ده وأنا هاررّوحك بعد شوية"، دخلت تلك الغرفة المعدنية ذات النوافذ الزجاجية الكبيرة والخاصة بالشرطة العسكرية ودخل معي اثنان ممن كانوا معي في الحافلة.
كانت الشمس قد بدأت بالمغيب ، والوضع يزداد سوءاً، وقفت خلف الزجاج أشاهد أولئك الهمج الذين يضربون بعضهم بالخناجر والسلاسل الحديدية، والجرحى أو ربما القتلى يتساقطون، ثم يسحبون على وجوههم ، جعلت أردد "فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين"، أحسست يشى من الطمأنينة، فتحت الباب وناديت الجندي وسألته أن يتدخل ليحقن الدماء، فأجاب بلهجة اّلية "ماعنديش أوامر بكدة"، فرددت بعصبية "تاني !! انتو حافظين ولا فاهمين؟" فعاود الإجابة بلهجته الاّلية المستفزة "إحنا بنفذ الأوامر"
أغلقت الباب و جلست أنتظر الفرج، ولكنه أتى سريعا، فما هي إلا دقائق وعاد الجندي قائلا "جتلي أوامر بالتحرك من هنا، تعالوا أرّوحكوا قبل أما أمشي"، خرجنا خلفه، استوقف لنا سيارة أجرة -لا أدري من أين ظهرت في مثل هذه الأجواء- وطلب من السائق أن يوصل ثلاثتنا رغم اختلاف اتجاهاتنا، ركبنا السيارة، وكنت أنا أسعدهم حظا لأن اتجاهي هو الأقرب من تلك النقطة، انطلقت بنا السيارة عبر طريق الأوتوستوراد حتى وصلنا إلى شارع متفرع منه يؤدي إلى منزلي فوجدناه مغلقا بحواجز حديدية خلفها شباب يحملون العصي والأسلحة البيضاء، إنها اللجان الشعبية مرة أخرى!! حاول السائق الدخول من شارع اّخر ولكن لا جدوى، القصة نفسها تكررت في شوارع مختلفة وعندها اضطررت للنزول من السيارة وأبرزت هويتي وطلبت منهم أن يسمحوا للسائق بالمرور، استجابوا لطلبي وأزاحوا الحواجز، ولكنها كانت المفاجأة!! وجدنا أن الشوارع الجانبية لا يخلوا فيها تقاطع واحد من لجان شعبية أخرى، من جديد طلبت منهم أن يسمحوا للسائق بالمرور ولكنهم رفضوا هذه المرة، وأجابني أحدهم "لو عايزة إنتي تدخلي إنزلي من التاكسي وكملي مشي ، بس مش هنخلي التاكسي يعدي"، تخوفت كثيرا من ذلك خاصة وأن الظلام كان قد أطبق تماما والجو المحيط قمة في الرعب، فرأف بحالي أحد الشباب وقال لي "إنزلي وأنا هامشي معاكي لحد البيت"، لم يكن لدي خيار اّخر، خرجت من السيارة ومشيت معه، سألني عن اسم الشارع الذي أقطن فيه فأجبته، لم يكن بعيدا عن تلك النقطة التي كنا فيها، ولكنه اقترح أن نذهب إلى هناك من طريق اّخر أبعد قليلا ولكنه حسب زعمه مؤمن جيدا، أو على حد تعبيره "أنا اللي أمنته بنفسي"، وطبعا اضطررت للموافقة ومشيت معه.
لم أكن أستطيع مجاراة خطواته السريعة، كنت أمشي خلفه لا أكاد ألتقط أنفاسي.
مررنا على عدة لجان شعبيه كان يعرفهم جميعا فردا فردا، لم أحتج إلى إبراز هويتي لأحدهم لأنه كان يقول لهم "تبعي".
بدأ يحدثني بزهو شديد عن تزعمه لكل هؤلاء، بصراحة أحسست أنه كان "ِبِيعَرّضها" خصوصاً عندما بدأ يلقى الأوامر كلما مرّ على لجنة ما، أي أوامر فارغة، فقط للاستعراض أمامي !
ظللت ملتزمة الصمت وأنا أسير خلفه حتى اتصلت بي أمي تقول لي بصوت مرتعد "أوعي تيجي البيت دلوقتي، الشارع بتاعنا في ضرب نار"، فعلا لقد كنت أسمع أصوات العيارات النارية لكني لم أعرف أنها من شارعنا، عندها وقفت في ذعر وقلت لذلك الشاب الذي عرفت فيما بعد أن اسمه "أحمد" :"شارع أنور المفتي في ضرب نار!!" وبالرغم من أن الظرف لم يكن يسمح بذلك على الإطلاق إلا أن أحمد التفت إلى شباب اللجنة الشعبية المجاورين وقد وجدها فرصة عظيمة لمزيد من استعراض زعامته وصرخ يشدة "شفتو عشان مابتسمعوش كلامي حصل إيه، أهو أنور المفتي في ضرب نار، قلتلكوا إعملو اللي أقول عليه" ولكنهم نظروا إليه شزرا في حين قال أحدهم ملوحا له بكلتا يديه "بالراحة يا عم، إنتا بتزعق كدة ليه؟!"
أشاح عنهم بوجهه وقال لي "مش مشكلة، تعالي عندنا في البيت لحد ما الوضع عندكو يهدى"، نظرت إليه بحيرة وعجزت عن الرد، فأضاف "ماتخافيش مراتي قاعدة لوحدها في البيت، أقعدي معاها شوية لحد ما الدنيا تهدى" وكالعادة كنت مضطرة للموافقة، سرت معه عكس اتجاهي حتى وصلنا إلى منزله، فتح بوابة ساحة المنزل فإذا بوالده أمامنا يرقبني بظرة فاحصة، ولكن ابنه لم يمهله أن يسأله من هذه فبادر على الفور قائلا "دي واحدة ساكنة في أنور المفتي بس مش عارفة توصل بيتها عشان في ضرب نار في شارعهم"، حافظ الأب على نظرته الفاحصة ولم يعلق في حين أطلت سيدة شابه من النافذة وقد سمعت الحوار وقالت بصوت أقرب إلى الصراخ "مين دي يا احمد ؟ أنا مش هادخلها بيتي!!!"
والعجيب أن أحمد الذي كان يتزعم اللجان الشعبية منذ دقائق لم ينبس ببنت شفة أمام صراخ زوجته الذي بدأ يتعالى أكثر وأكثر وهي تقول "مش هادّخل حد ما اعرفوش، خليها تروح عند أم سعد" طبعا فهمت أن أم سعد هذه هي "مرات البواب" ولكن من الواضح أن حتى هذا الحل لم يعجب الأب، فأشار إلى كرسي خشبي متهالك خارج ساحة المنزل وقال "ممكن تعدي هنا"، نظرت إلى أحمد الذي كان واقفا أمامي يوليني ظهره ، لا يجرؤ طبعا إلى الالتفات إلى، ثم أجبت الأب "لا شكرا ياحاج"، ووليت مسرعة، كان هذا الموقف قد أعطاني طاقة عجيبة، نسيت التعب ومشيت بخطوات سريعة ثابتة في اتجاه منزلي وليكن مايكون، حتى قابلني شيخ وقور فسألني "رايحة فين يابنتي؟" فأجبت "أنا راجعة البيت في أنور المفتي" فقال "لأ بلاش تروحي هناك دلوقتي، تعالي اطلعي عندنا في البيت" فصرخت بقوة "لأ!!!" ثم استدركت الموقف وقلت بهدوء "معلش ياحاج لازم أرجع البيت"، فابتسم قائلاً "يابنتي مافيهاش حاجة، تعالي عندنا شوية بس"، فأجبت بإصرار "لأ معلش أنا عايزة أرجع البيت"، فما كان منه إلا أن صحبني إلى البيت بعد أن استدعى ثلاثة من الشباب يسيرون خلفنا لحماية ظهورنا حتى وصلنا إلى البيت بسلام، وما أن أخرجت مفاتيح بوابة المنزل حتى قال لي ذلك الشيخ وشبابه الثلاث نستودعك الله، شكرتهم بشدة ودعوت لهم جميعا.
كنت أتنفس الصعداء وأنا أدخل المفتاح في مجراه لأفتح البوابة، ولكني تسمرت عندما رأيت على زجاج البوابة ظلا لشخص طويل القامة يحمل عصا غليظة قادما خلفي، فصرخت ولكنه لم يمهلني، فلقد ألجم فمي بكفه قائلا "هششش... أنا محمد" ..... يا إلهي ..إنه محمد أخي !!... "انتا لسة جاي من التحرير؟"، أجاب بعصبية شديدة " بس .. إطلعي دلوقتي"، أغلق البوابة خلفي ثم عاد للوقوف مع جيراننا في لجنتنا الشعبية.
وأخيراً أنا في غرفتي ... صليت المغرب فالعشاء ثم أويت إلى الفراش، ورغم الإعياء الشديد الذي كنت أعانيه، لم يغمض لي جفن.
لقد أمضى شباب اللجان الشعبية الليلة واقفين حول بيوتهم وقد اتفقوا على علامات بينهم لإعلان وقوع الخطر، فما أن يقترب منهم شخص غريب حتى يرفعوا أصواتهم بالصفير لاستدعاء اللجان الأخرى، وإذا ما تأكدوا من خطورته فإنهم يطرقون أنابيب المياه الموصلة للبيوت حتى يوقظو أهلها استعدادا لمواجهة الخطر! وكنت كلما غفوت لحظة أفقت على أصوات الصفير وطرق الأنابيب.
لقد كانت بحق ليلة ليلاء، أدركت فيها معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم "من بات آمنا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها"
لم أكن قد أدركت وقتها مدى خطورة انسحاب الشرطة،عندما خرجت ذلك اليوم قاصدة مستشفى القصر العيني بعد أن علمت أن التمريض هناك بحاجة إلى المساعدة نظرا لكثرة المصابين الذين تم نقلهم إلى هناك جراء اعتداءات رجال الأمن عليهم أثناء التظاهر،فضلا عن احتياجهم الشديد لمتبرعين بالدم .
وصلت إلى قسم الطوارئ بالمستشفى ،وفوجئت بالأعداد الهائلة من الجرحى الذين لم تعد تسعهم أسرة المستشفى ،وعندها اغرورقت عيناي بالدموع وأنا أرى أولئك الجرحي ينزفون،ويصرخون ألما وهم يُحملون،وظل لساني يلهج بالدعاء على أولئك الظالمين، القتلة المتوحشين حتى وصلت إلى بنك الدم وهناك دمعت عيناي من جديد ، ولكن كانت دموع الفرح هذه المرة ... فلقد رأيت صفوفا تلو الصفوف من الشباب و الفتيات يقفون كل في انتظار دوره للتبرع بالدم .
وقفت في تلك الصفوف حتي أدركني الدور،استلقيت ومددت ذراعي للطبيب ثم ظللت أرقب في اعتزار ذلك الدم الذي يسحب من عروقي، كم كنت فخورة بأن دمي سيجري في جسد أحد أولئك الأبطال، الذي إن عوفي أكمل الطريق بدمي، وإن نال الشهادة فقد جري دمي يوما في جسد شهيد.
دقت الساعة الرابعة، غادرت المستشفى بسرعة حيث كان حظر التجوال قد بدأ منذ ساعة، الشوارع حولي تكاد تخلو من المارة، المحال التجارية مغلقة، القاهرة - فيما عدا ميدان التحرير- شبه مهجورة، وصلت إلى محطة رمسيس و اسقليت حافلة مع أربعة أشخاص فقط لم ينفكوا يتكلمون عن أعمال النهب و السطو المسلح على البيوت الذي بدأ منذ صبيحة اليوم، بدأ الخوف يتسلل إلي ّ رويداً رويداَ،إلى أن تملكني تماما عندما رأيت مجموعة من الشباب يلوحون بأسلحتهم البيضاء لسائق الحافلة لمجرد أنه حاول التوقف بجوارهم لإنزال أحد الركاب !
كان موقفا عجيبا بالنسبة لي لم أستطع تفسيره، إلا أنه تكرر بعد ذلك مرات ثلاث كان السائق يحاول فيها تهدئه سرعته لإنزال أحد من الركاب، والأدهى و الأمر أن السائق حاول الدخول إلى محطة وقود للتزود، فمنعه من ذلك شباب مسلحون أيضا !!!
عرفت ممن حولي أن هؤلاء الشباب يمثلون ماتم تسميته باللجان الشعبية، فبعد أن انسحبت الشرطة متخلية عن واجبها في حفظ أمن البلاد، بل و أطلقت المجرمين بعد تسليحهم فسطوا على المنازل و المراكز التجاريه، قام الشباب بتشكيل هذه اللجان الشعبية حيث وزعوا أنفسهم حول بيوتهم وفي الشوارع المؤدية إليها حاملين معهم ما تيسر لهم من سلاح كسكاكين المطبخ و عصي خشبية.
اضطر السائق للوقوف في طريق عريض خال من اللجان الشعبية، كان ذلك الطريق هو طريق النصر (الأتوستوراد) بجوار مستشفى المقاولون العرب، وطلب منا جميعا النزول لأنه بكل تأكيد لن يتمكن من استكمال طريقه.
نزلت من الحافلة و أنا أحاول السيطرة على أعصابي لأفكر كيف سأعود إلى البيت، ولكن الأحداث لم تمهلني....
رأيت جموعا عظيمة من البشر لا أكاد أرى اخرهم يركضون قادمين من بعيد، وقفت في مكاني مشدوهة بينما هم يقتربون و يقتربون، حتى تبين لي أنهما فئتان تقتتلان، أو بتعبير أدق تطارد إحداهما الأخرى، ارتعدت فرائضي وأنا أرى أولئك البلطجية وقد عصب أحدهم إحدى عينيه أو اعتلى وجهه ضربة سكين وبدت عليه سمات الإجرام!
استجمعت شجاعتي وركضت باتجاه أحد جنود الجيش الذي كان يقف في الجانب المقابل من الشارع لا يحرك ساكنا رغم ما يحدث حوله، وما أن وصلت إليه حتى قلت له بصوت أعياه الركض والفزع "هاتلي دبابة تروحني البيت حالا"، فابتسم متهكما من بلاهتي وهو يقول "معنديش أوامر بكدة!"، استطردت في ارتياع "إنتا مش شايف الشارع عامل إزاي، أنا هامشي لوحدي إزاي في وسط دول؟"، فأجاب بهدوء "ماتخافيش، ادخلي استني في الكشك ده وأنا هاررّوحك بعد شوية"، دخلت تلك الغرفة المعدنية ذات النوافذ الزجاجية الكبيرة والخاصة بالشرطة العسكرية ودخل معي اثنان ممن كانوا معي في الحافلة.
كانت الشمس قد بدأت بالمغيب ، والوضع يزداد سوءاً، وقفت خلف الزجاج أشاهد أولئك الهمج الذين يضربون بعضهم بالخناجر والسلاسل الحديدية، والجرحى أو ربما القتلى يتساقطون، ثم يسحبون على وجوههم ، جعلت أردد "فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين"، أحسست يشى من الطمأنينة، فتحت الباب وناديت الجندي وسألته أن يتدخل ليحقن الدماء، فأجاب بلهجة اّلية "ماعنديش أوامر بكدة"، فرددت بعصبية "تاني !! انتو حافظين ولا فاهمين؟" فعاود الإجابة بلهجته الاّلية المستفزة "إحنا بنفذ الأوامر"
أغلقت الباب و جلست أنتظر الفرج، ولكنه أتى سريعا، فما هي إلا دقائق وعاد الجندي قائلا "جتلي أوامر بالتحرك من هنا، تعالوا أرّوحكوا قبل أما أمشي"، خرجنا خلفه، استوقف لنا سيارة أجرة -لا أدري من أين ظهرت في مثل هذه الأجواء- وطلب من السائق أن يوصل ثلاثتنا رغم اختلاف اتجاهاتنا، ركبنا السيارة، وكنت أنا أسعدهم حظا لأن اتجاهي هو الأقرب من تلك النقطة، انطلقت بنا السيارة عبر طريق الأوتوستوراد حتى وصلنا إلى شارع متفرع منه يؤدي إلى منزلي فوجدناه مغلقا بحواجز حديدية خلفها شباب يحملون العصي والأسلحة البيضاء، إنها اللجان الشعبية مرة أخرى!! حاول السائق الدخول من شارع اّخر ولكن لا جدوى، القصة نفسها تكررت في شوارع مختلفة وعندها اضطررت للنزول من السيارة وأبرزت هويتي وطلبت منهم أن يسمحوا للسائق بالمرور، استجابوا لطلبي وأزاحوا الحواجز، ولكنها كانت المفاجأة!! وجدنا أن الشوارع الجانبية لا يخلوا فيها تقاطع واحد من لجان شعبية أخرى، من جديد طلبت منهم أن يسمحوا للسائق بالمرور ولكنهم رفضوا هذه المرة، وأجابني أحدهم "لو عايزة إنتي تدخلي إنزلي من التاكسي وكملي مشي ، بس مش هنخلي التاكسي يعدي"، تخوفت كثيرا من ذلك خاصة وأن الظلام كان قد أطبق تماما والجو المحيط قمة في الرعب، فرأف بحالي أحد الشباب وقال لي "إنزلي وأنا هامشي معاكي لحد البيت"، لم يكن لدي خيار اّخر، خرجت من السيارة ومشيت معه، سألني عن اسم الشارع الذي أقطن فيه فأجبته، لم يكن بعيدا عن تلك النقطة التي كنا فيها، ولكنه اقترح أن نذهب إلى هناك من طريق اّخر أبعد قليلا ولكنه حسب زعمه مؤمن جيدا، أو على حد تعبيره "أنا اللي أمنته بنفسي"، وطبعا اضطررت للموافقة ومشيت معه.
لم أكن أستطيع مجاراة خطواته السريعة، كنت أمشي خلفه لا أكاد ألتقط أنفاسي.
مررنا على عدة لجان شعبيه كان يعرفهم جميعا فردا فردا، لم أحتج إلى إبراز هويتي لأحدهم لأنه كان يقول لهم "تبعي".
بدأ يحدثني بزهو شديد عن تزعمه لكل هؤلاء، بصراحة أحسست أنه كان "ِبِيعَرّضها" خصوصاً عندما بدأ يلقى الأوامر كلما مرّ على لجنة ما، أي أوامر فارغة، فقط للاستعراض أمامي !
ظللت ملتزمة الصمت وأنا أسير خلفه حتى اتصلت بي أمي تقول لي بصوت مرتعد "أوعي تيجي البيت دلوقتي، الشارع بتاعنا في ضرب نار"، فعلا لقد كنت أسمع أصوات العيارات النارية لكني لم أعرف أنها من شارعنا، عندها وقفت في ذعر وقلت لذلك الشاب الذي عرفت فيما بعد أن اسمه "أحمد" :"شارع أنور المفتي في ضرب نار!!" وبالرغم من أن الظرف لم يكن يسمح بذلك على الإطلاق إلا أن أحمد التفت إلى شباب اللجنة الشعبية المجاورين وقد وجدها فرصة عظيمة لمزيد من استعراض زعامته وصرخ يشدة "شفتو عشان مابتسمعوش كلامي حصل إيه، أهو أنور المفتي في ضرب نار، قلتلكوا إعملو اللي أقول عليه" ولكنهم نظروا إليه شزرا في حين قال أحدهم ملوحا له بكلتا يديه "بالراحة يا عم، إنتا بتزعق كدة ليه؟!"
أشاح عنهم بوجهه وقال لي "مش مشكلة، تعالي عندنا في البيت لحد ما الوضع عندكو يهدى"، نظرت إليه بحيرة وعجزت عن الرد، فأضاف "ماتخافيش مراتي قاعدة لوحدها في البيت، أقعدي معاها شوية لحد ما الدنيا تهدى" وكالعادة كنت مضطرة للموافقة، سرت معه عكس اتجاهي حتى وصلنا إلى منزله، فتح بوابة ساحة المنزل فإذا بوالده أمامنا يرقبني بظرة فاحصة، ولكن ابنه لم يمهله أن يسأله من هذه فبادر على الفور قائلا "دي واحدة ساكنة في أنور المفتي بس مش عارفة توصل بيتها عشان في ضرب نار في شارعهم"، حافظ الأب على نظرته الفاحصة ولم يعلق في حين أطلت سيدة شابه من النافذة وقد سمعت الحوار وقالت بصوت أقرب إلى الصراخ "مين دي يا احمد ؟ أنا مش هادخلها بيتي!!!"
والعجيب أن أحمد الذي كان يتزعم اللجان الشعبية منذ دقائق لم ينبس ببنت شفة أمام صراخ زوجته الذي بدأ يتعالى أكثر وأكثر وهي تقول "مش هادّخل حد ما اعرفوش، خليها تروح عند أم سعد" طبعا فهمت أن أم سعد هذه هي "مرات البواب" ولكن من الواضح أن حتى هذا الحل لم يعجب الأب، فأشار إلى كرسي خشبي متهالك خارج ساحة المنزل وقال "ممكن تعدي هنا"، نظرت إلى أحمد الذي كان واقفا أمامي يوليني ظهره ، لا يجرؤ طبعا إلى الالتفات إلى، ثم أجبت الأب "لا شكرا ياحاج"، ووليت مسرعة، كان هذا الموقف قد أعطاني طاقة عجيبة، نسيت التعب ومشيت بخطوات سريعة ثابتة في اتجاه منزلي وليكن مايكون، حتى قابلني شيخ وقور فسألني "رايحة فين يابنتي؟" فأجبت "أنا راجعة البيت في أنور المفتي" فقال "لأ بلاش تروحي هناك دلوقتي، تعالي اطلعي عندنا في البيت" فصرخت بقوة "لأ!!!" ثم استدركت الموقف وقلت بهدوء "معلش ياحاج لازم أرجع البيت"، فابتسم قائلاً "يابنتي مافيهاش حاجة، تعالي عندنا شوية بس"، فأجبت بإصرار "لأ معلش أنا عايزة أرجع البيت"، فما كان منه إلا أن صحبني إلى البيت بعد أن استدعى ثلاثة من الشباب يسيرون خلفنا لحماية ظهورنا حتى وصلنا إلى البيت بسلام، وما أن أخرجت مفاتيح بوابة المنزل حتى قال لي ذلك الشيخ وشبابه الثلاث نستودعك الله، شكرتهم بشدة ودعوت لهم جميعا.
كنت أتنفس الصعداء وأنا أدخل المفتاح في مجراه لأفتح البوابة، ولكني تسمرت عندما رأيت على زجاج البوابة ظلا لشخص طويل القامة يحمل عصا غليظة قادما خلفي، فصرخت ولكنه لم يمهلني، فلقد ألجم فمي بكفه قائلا "هششش... أنا محمد" ..... يا إلهي ..إنه محمد أخي !!... "انتا لسة جاي من التحرير؟"، أجاب بعصبية شديدة " بس .. إطلعي دلوقتي"، أغلق البوابة خلفي ثم عاد للوقوف مع جيراننا في لجنتنا الشعبية.
وأخيراً أنا في غرفتي ... صليت المغرب فالعشاء ثم أويت إلى الفراش، ورغم الإعياء الشديد الذي كنت أعانيه، لم يغمض لي جفن.
لقد أمضى شباب اللجان الشعبية الليلة واقفين حول بيوتهم وقد اتفقوا على علامات بينهم لإعلان وقوع الخطر، فما أن يقترب منهم شخص غريب حتى يرفعوا أصواتهم بالصفير لاستدعاء اللجان الأخرى، وإذا ما تأكدوا من خطورته فإنهم يطرقون أنابيب المياه الموصلة للبيوت حتى يوقظو أهلها استعدادا لمواجهة الخطر! وكنت كلما غفوت لحظة أفقت على أصوات الصفير وطرق الأنابيب.
لقد كانت بحق ليلة ليلاء، أدركت فيها معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم "من بات آمنا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها"
اللجان الشعبية سبحان الله شئ كان اكثر تنظيما وفى اقل وقت ودون اى اعداد او خطط مسبقه للقشاء على فكرة السفاح العشوائى الذى اطلقة النظام
ردحذفتدوينة شيقة وأعادت لى زكريات صعبة
ردحذفبورك سعيك يا أختى الطيبة وبوركت شجاعتك
زينب
ربنا يجزيك خير ويجعلك فى كل خطوه حسنه
ردحذف