الاثنين، 4 أبريل 2011

على العهد ...

رغم  الاّلام التي كانت تعتصر قلبي بعد مجزرة الأربعاء الدامي، ورغم حالة الإحباط الشديد التي كنت أمر بها، إلا أنني صممت أن أبقى على العهد ، ذلك العهد الذي قطعته على نفسي أن أنتصر لإخواني الشهداء، وأن أبرد قلب كل من يبكي فقيده ، وأن أشفي صدر كل من تجرع كأس الظلم والتعذيب .
إنها ليلة الجمعة الرابع من فبراير، والمسمى بجمعة الرحيل أملا أن يكون يوم رحيل "اللا مبارك".
أعددت نفسي ليلتها ليوم غد - يوم التحدي- تلوت سورة الأنفال، وجعلت أتأمل اّيات القتال و اّيات النصر، وأيقنت أن نصر الله قريب...
نودي للصلاة من يوم الجمعة، سعينا لذكر الله ، ولما قضيت الصلاة خرجنا منفضين إلى ميدان التحرير.
لقد أديت الصلاة في مسجد رابعة العدوية بمدينة نصر، ومن هناك مشيت في مسيرة إلى الميدان، لم أكن أعرف أحدا ممن مشيت معهم في المسيرة ، ولكن قلوبنا تعارفت وائتلفت، فكلنا قلب واحد نحو هدف واحد.
لم يتجاوز عددنا المائة، قطعنا معا طريقا طويلا كان بالنسبة لي من أجمل ما قطعت، كانت روح رائعة تسود بيننا ، ما مررنا على متجر إلا و اشترى أحدنا صناديقا من العصير والمياه المعدنية للجميع، وما مررنا على حفرة أو عقبة في الطريق، إلا ووقف شاب أمامها ينبه المارة حتى تمر المسيرة بأكملها.
كنا نمر بجوار البيوت فنهتف "يا أهالينا انضموا إلينا" فكانوا يؤيدوننا بالهتاف ويلوحون لنا بالأعلام ، ولكن للأسف كان بعض منهم يسبوننا ويتهموننا بالخيانة، بل إن سكان أحد العمارات أرسلوا لجنتهم الشعبيه لمطاردتنا، ولكن لا عجب إنهم قوم مسحورون !!
والأطرف من ذلك أن حافلة مرت بجوار مسيرتنا فقام أحد الركاب بسبنا قائلا " يا ولاد الـ...." ولكن الراكب خلفه صفعه بقوة على قفاه!!! وطبعا انطلقت الحافلة أسرع من خطواتنا فلم نشاهد ما حدث بعد ذلك !!!
وصلنا إلى ميدان رمسيس، وهناك نلنا قسطا من الراحة ، وأدينا صلاة العصر، ثم جلسنا نخطط لعبور النقطة القادمة ، فهي الأشد خطرا حيث ينتشر فيها البلطجية وتسير فيها بعض المظاهرات المؤيدة للنظام.
أعدنا ترتيب سيرنا ، تم تجميع النساء في المنتصف ، في حين أحاط الرجال بهن من جميع الجهات لحمايتهن ، حاول كل فرد أن يحفظ شكل كل من يجاوره من الناحيتين كي لا يندس غريب وسطنا ، أكملنا سيرنا نحو الميدان ، التقينا مسيرة هزيلة جدا تحمل صور "اللامبارك" دون أن ينهك أحد أفرادها صوته بأي هتاف ، وبالرغم من أن أحدا لن يتعرض لهم إلا أنهم كانوا محاطين بعدد من أفراد الشرطة !!
اقتربنا من الهدف ، ورغم الاحتياطات التي اتخذناها ، استطاع اثنان من البلطجية الاندساس بيننا، ولكن شبابنا تنبهوا لذلك سريعا، وأمسكوا بهم وقيدوهم  وسلموهم للجيش .
وأخيرا وصلنا لشارع طلعت حرب ، ميدان التحرير على بعد أمتار ولكن ......
البلطجية حولنا يشهرون سلاحهم علنا ، دخلوا بيننا ، بدأوا يطوقون أشخاصاً منا بحلقات بشرية منهم ويأخذونه ، لقد اختاروا تحديدا كل من كان يحمل كميات من الطعام والدواء إمدادا للمرابطين في الميدان ، ساد الهرج ، بدأتُ أرى حولي وجوها جديدة ، اقتربت ممن أعرف ، تقدمنا في حذر حتى تم منعنا من المرور، فلقد وقف البلطجية أمامنا صفا عرضيا أن لن تمروا..
التفت إلينا الرجال في حين قال أحدهم  "ياريت البنات يرجعوا" لم يكد ذلك الشاب يكمل عبارته حتى أطلق البلطجية النار، انبطح البعض وركض البعض الاّخر ، وبدأت النيران تدوي في كل الاتجاهات ، تفرقنا في ثوانٍ، دخلت أحد الممرات الجانبية راكضة خلف بعض من هربوا، كنت أركض كما لم أركض من قبل ، كنت أركض رافعة صوتي بكلمة التوحيد "لا إله إلا الله" فلربما تصيبني رصاصة من  خلفي فتكون الشهادة اّخر مانطقت .
أعيانا الركض، كدنا نقع أرضا من شدة التعب، أدركنا أننا قطعنا مسافة طويلة وأن الخطر قد زال تقريبا، نظرت في وجوه من حولي فوجدتها وجوها لا أعرفها، لم يكن أحد منهم معي في المسيرة، كانوا ثلاثة فقط من الفتيات اثنتان منهن يعرفان بعضهما البعض، توسمت فيهن خيرا فصحبتهن، خرجنا إلى شارع رئيسي ، التقينا شابا فسألناه كيف نصل إلى الميدان، فوصف لنا طريقا اّمنا وهو المدخل من جهة قصر النيل ، عرفنا بعد ذلك أن هذا هو المدخل الوحيد الاّمن حيث أن الثوار يسيطرون عليه تماما ويؤمنونه جيداً، سلكنا ذلك الطريق الاّمن ووصلنا إلى الميدان، كانت الشمس قد أوشكت على المغيب ، تذكرت أنها الساعة الاخيرة من نهار الجمعة،  ساعة لا يرد الله فيها سائلا، فاتخذت ركنا قصيا وهممت بالدعاء، ولكن انتباهي تشتت مما حدث حولي فجأة، الهتاف يتعالى،  والأعلام ترتفع، وصيحات التكبير تملأ الأجواء..... لقد تنحى مبارك .. يال السعادة، وجدت فتاة ترتمي في احضاني ، وأخرى تقبلني، وأنا أبادلهما الأحضان والقبلات، ولكن سعادتنا لم تدم سوى لحظات .... إنها مجرد إشاعة !!
لم أعرف شيئا عن مصدر هذه الإشاعة، ولا أدري كيف انتشرت بسرعة بين هذه الملايين، ولكن هذا ماحدث!
كم كان تأثير تلك الإشاعة مدمراً، فقد عانقت معنوياتنا عنان السماء، ثم هوت فجأة في مكان سحيق .
امتصصنا الصدمة، وأكملنا الليلة ... كانت ليلة رتيبة للغاية، مرت ساعاتها بطيئة دون أحداث تذكر، طلع الفجر وانتهت جمعة الرحيل دون أن يرحل مبارك .
أشباح اليأس تطاردني ، تكاد تتمكن مني ، ولكنني أفقت على نداءات الثوار وإعلانهم عن أسبوع الصمود، أسبوع جديد من الرباط والكفاح والصبر، سأصمد معهم حتى النهاية، لن أيأس ، وسأبقى على العهد .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق