الاثنين، 4 أبريل 2011

وداعا ميدان التحرير

أشرقت شمس الثاني عشر من فبراير لتضيء أرضا لم ينم أهلها فرحا وطربا، إنه الصباح الأول في عهد الحرية، صباح لم يكن كأي صباح، صباح خرج فيه شباب مصر وشيوخها، رجالا ونساء، قادمين من كل مكان من مصر حاملين معهم أدوات النظافة، ومتوجهين إلى مكان واحد، إنه مشرق الحرية، ميدان التحرير.
وكأحد شباب مصر خرجت بعدة النظافة وتوجهت إلى هناك، لأجد الميدان قد تحول إلى خلية نحل يعمل أفرادها بنشاط وهمة، بتعاون ونظام.
الثوار أنفسهم الذين كانوا بالأمس يدا بيد لإسقاط النظام، هم اليوم أيضاً يدا بيد لإعمار البلاد، فهاهم يكنسون الشوارع، ويجمعون الحجارة المكسورة الملقاة على الأرض، ويزيلون اّثار الملصقات من على الحوائط ، ويدهنون الأرصفة والجدران، بل ويرسمون عليها أجمل اللوحات الفنية.
كنت سعيدة جدا وأنا أشارك في تنظيف الميدان بقدر ما كنت حزينة على فراقه، فلم أعد أتخيل أني لن أرى هذا الميدان يومياً، وإن رأيته، فلن يعود ذلك الميدان الذي أحببت الحياة فيه.
سيقتلعون الخيام، ويزيلون المنصات، وينزلون اللافتات... لن أسمع تشريفة عند وصولي إلى الميدان، ولن يودعني أحد عند مغادرته، ستعود السيارات للمرور، وستفتح المحلات، وسيعود مجمع التحرير للعمل........ 
ستعود الحياة وستحلوا الأيام، وأخيرا يامصر ستحلو فيك الأيام لمن صبر، وستنقلب فيك الأيام على من ظلم، حقا .... إنها الأيام يداولها ربي بين الناس.
ميدان التحرير ... لكم أذوب فيك عشقاً، ولكم سأشتاق إليك،  وسيبقى كل شبر فيك يذكرني بأجمل أيام حياتي التي أمضيتها فيك، فعلى هذا الرصيف جلست أتلو لقراّن، وعلى ذلك الأسفلت مرغت جبيني ساجدة لله، وخلف ذلك العمود وقفت أواري دموعي على إخوتي الشهداء، وإلى ذلك الجدار ألجأت ظهري أستريح من مسيرات طوال، وعلى تلك الدرجات وقفت أنشد أجمل ما يقال في حب مصر.
على هذه الأرض سالت دماء الشهداء، ومن تلك السماء تنزلت الملائكة تزف أرواحهم إلى الجنان.
وداعا أيها الميدان العظيم، ولتشهد لي أرضك يوم القيامة، يوم يختم على الأفواه، لتشهد أن رابطت عليها، وتمنيت لو مت فيها.
وداعا ميدان التحرير...

ويومئذ يفرح المؤمنون ...بنصر الله

مضى أسبوع الصمود، أسبوع طويل جداً كان عامرا بالصبر والدعاء بالنصر، مشحوناً باّلام الفراق، متوجا بالتفاؤل و حسن الظن بالله .
إنه يوم الخميس العاشر من فبراير والذي لم يكن كغيره من أيام الثورة، كان كما بدا لنا يوم النهاية، نهاية النظام المستبد الذي جثم على أرض مصر منذ ثلاثين عاماً.
لم يعد ميدان التحرير هو وحده خارج سيطرة النظام، وإنما أضربت الهيئات والمؤسسات عن العمل، اعتصم سائقو مترو الأنفاق وتوقفوا عن العمل، توقفت الحافلات بعرض الشوارع لتسد الطرق وقد أعلن سائقوها الإضراب التام .
وبدأ القدر يبتسم عندما انعقد اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة دون قائده الأعلى المدعو محمد حسني مبارك، كما تم الإعلان عن خطاب سيلقيه سيادته في خلال ساعات.
أيقن الجميع أنه النصر، بدأ الناس يتبادلون التهاني، وراحت السيارات تجوب الشوارع مطلقة أبواقها بنغمات الفرح، بل إن الناس جهزوا المشروبات والحلوى لتوزيعها بعد سماع خطاب اللا مبارك الذي سيكون بلا أدنى شك خطاب التنحي.
وبعد ساعات من الانتظار بدأ الخطاب، جلست أمام التلفاز لأشاهده و ليتني لم أشاهده......
لقد فاق ذلك الخطاب جميع التوقعات، وحطم كل الاّمال......
لم يتنح مبارك !!! رغم كل مايحدث فهولايزال عند رأيه وأقصى ما يمكنه تقديمه أن لا يترشح لفترة رئاسية أخرى!!!
يا إلهي .. أكاد أُجن !! لست وحدي بل إن شعب مصر كله كاد أن يفقد عقله أو أن يصاب بسكتة قلبية!!
الثوار في التحرير يرفعون الأحذية لهذا الخطاب المستفز ويتحرك جزء منهم من الميدان لمحاصرة مبنى الإذاعة والتليفزيون بماسبيرو.
أما أنا، فقد أصبت باكتئاب شديد، دلفت إلى غرفتي في حالة يأس تام وجلست أفكر، ما الذي يجعل هذا اللا مبارك يتصرف بهذا الجبروت؟ ألا يخشى ردود أفعال شعبه الذي خرج عن سيطرته تماماً ؟ أم أنه دبرجيدا قبل أن يلقي هذا الخطاب وأعد خطة جديدة لإخماد الثورة ؟ ترى ماذا دبر لنا ؟ هل سيقصفنا بالطائرات ؟ هل سيستعين بإسرائيل ؟ هل استأجر مرتزقة فضائيين من كوكب بلوتو؟
أفكار شيطانية ظلت تراودني حتى تذكرت قوله تعالى (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) 
يا إلهي ، لقد أنساني الشيطان ذكر ربي فخوفني من مكرهم وأنساني أن الله خير الماكرين، توجهت إلى الله بالدعاء اللهم إنهم يمكرون ويمكرون وأنت خير الماكرين، اللهم فامكر لنا ، اللهم إنهم يدبرون وإننا لا نحسن التدبير، فدبر لنا امرنا واجعل تدبيرهم تدميرهم
ظللت أدعو حتى امتلأت نفسي عزيمة وقوة ، استعددت للخروج غدا، ولكن ليس إلى ميدان التحرير هذه المرة، بل إلى قصر الرئاسة.
وكما الجمعتين المباركتين الماضيتين، كانت هذه الجمعة، ما أن قضيت الصلاة حتى سارت الجموع الغفيرة تطالب بخلع الرئيس.
مشيت في مسيرة نحو القصر، كنت أرى في عيون من حولي نفس ما يجتاح صدري ... لن نعود إلا منصورين.
الهتافات تتعالى ، و الحماس لا يوصف.
وصلنا إلى منتصف طريق صلاح سالم ، اعترضتنا دبابة، نزل منها الجنود ووضعوا حواجز حديدية، وأغلقوا الطريق تماما.
حاولنا الحديث معهم ولكن دون جدوى، جعلنا نهتف مطالبين بالمرور ولكن أيضا دون جدوى، عندها أمسك أحد الشباب بمكبر الصوت وقال كلمة عظيم جدا... كفو عن سؤال البشر، ولنسأل الله ، فلنتجه جميعا نحو القبلة ولنصل ركعتين وندعوا الله بالنصر.
وفعلا ، وقف ذلك الجمع بين يدي الله رافعا أكف الضراعة، وظل ذلك الشاب يدعوا ونحن نؤَمن.
انتهينا من الصلاة فافترشنا الأرض وقررنا أن ألا نبرح أماكننا، سنجعل من طريق صلاح سالم تحريرا ّخر، بل سنحول كل ميادين مصر وشوارعها إلى ميدان التحرير.
أجرينا اتصالات مع المرابطين في ميدان التحرير وطلبنا منهم المساعدة فأرسلوا لنا مددا قوامه ألف رجل!!!
وانتشرت بسرعة روح المدينة الفاضلة فيما بيننا، بدأ الناس يكتبون اللافتات ويوزعونها، وبدأوا يوزعون الطعام والشراب، بل إنهم أعدوا وليمة للضيوف القادمين من ميدان التحرير!!
بدأت السماء تمطر، جلست أعرض نفسي للمطر وأدعوالله حتى خطرت لي خاطرة ...
تذكرت قوله تعالى (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان)
لعل هذه الأمطار علامة النصر ، كما أنزل الله هذه الأمطار على أهل بدر فثبت أقدامهم ونصرهم...
اللهم نصرا كنصر بدر هكذا ظللت أدعوا حتى صلاة العصر، صليت العصر ثم جلست أتلوا القران ألتمس ساعة الإجابة في هذا اليوم المبارك .
غربت الشمس وارتفع اّذان المغرب، أحسست برغبة في الصلاة في المسجد ، تركت متاعي مع إخوتي المرابطين ومشيت إلى مسجد قريب، وهناك صليت اّخر صلاة في عهد الاستبداد.
لقد كنت في التشهد الأخير من صلاة المغرب عندما ارتفعت الأصوات خارج المسجد، سلمت عن يميني وعن شمالي ثم توجهت مسرعة إلى باب المسجد فوجدت مجموعة من الفتيات يركضن نحوي لا تسعهن الفرحة وهن يقلن لي لقد تنحى حسني مبارك...
ليست إشاعة هذه المرة إنها حقيقة .
عدت إلى مُصلاي وسجدت سجدة شكر، وكذلك فعل من حولي، صليت ركعتي السنة ثم خرجت إلى الشارع لأرى لأول مرة في حياتي مصر وهي حرة.
الألعاب النارية تضيء السماء، صيحات التكبير تعلو، أعلام مصر ترفرف، الناس يتعانقون، الأطفال يرقصون، وكذلك الكبار، الشباب يصعدون فوق الدبابات، يقبلون رؤوس جنود الجيش، الحلوى توزع، الفرحة تغمر الأجواء.
وقفت أتأمل كل هذا بسعادة غامرة، الحمد لله أن أتم علينا نصره، هنيئا لمصر، هنيئا لكم الحرية أيها الأبطال، هنيئا لكل من رابط في الميدان،هنيئا لكل من بات ساجدا يدعو بالنصر والتمكين، هنيئا لكل من قضى ليله يذود عن ماله وعرضه، هنيئا هنيئا لكم، طوبى للشهداء، وتعساً للجبناء، وتعساً لكم أيها المنافقون المثبطون المحبطون، تعساٍ لكم أعداء الثورة، تعسا لكم وأضل أعمالكم ، لا مقام لكم اليوم، اليوم يومنا، يوم المؤمنين، يوم المجاهدين، يوم الأحرار .
كفى أن كلاً منكم الان يقول ياليتني كنت معكم فأفوز فوزا عظيما، موتوا بغيظكم ليس، الفوز لأمثالكم.
الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ منها حيث نشاء.


من ثمانية عشر يوم فقط خرجت أقول في نفسي لحكومة الفساد (إن موعدكم الصبح أليس الصبح بقريب... فعلا كم كان الصبح قريبا ، قريبا جدا. 

المدينة الفاضلة

 
"أهلا أهلا بالأحرار..اللي انضموا للثوار..مرحب مرحب بالأبطال" تشريفة تسمعها للترحيب بك عند دخولك لتلك المدينة، مدينة خافتة الأضواء، مكتظة بالسكان، بيوتها خيام بلاستيكية، سكانها ثوار، زوارها أحرار، أنى مشيت فيها وجدت فيها لافتة تحمل أقوى وأطرف العبارات الثورية.
 ومابين كل لافتة وأخرى ترى لونا من ألوان الفنون، فعن يمينك تجد شابا يحمل جيتاره وقد ارتجل كلمات وألحان لأغنية ثورية يغنيها ويعزف ألحانها وسط اّلاف من المشاهدين، وعن يسارك تجد مسرحية هزلية لثائر هندي يدعى نانا!!

 وإذا سرت بجوار أطلال مطعم كنتاكي تجد أن واجهته الزجاجية قد تحولت لمعرض لأروع اللوحات الثورية، وقد افترش فنانو المعرض الأرض أمامه بأدواتهم الفنية البسيطة يستقبلون أفكارا تأتيهم من الثوار ليخرجوها إلى النور بريشاتهم.

أكمل جولتك في المدينة لتشاهد مستشفيات ذوات أوتاد ودُسُر وقد جمعت خيرة الأطباء المتطوعين، تراهم في معاطفهم البيضاء لا تفارقهم البسمة، يعالجون مايصلهم من حالات إبتداء من الصداع وحتى حروق قنابل المولوتوف.

شخص واحد في هذه المدينة يحق له اقتناء السلاح الأبيض، إنه حلاق الثورة، ترى بحوزته مقص وشفرات يستخدمها في الحلاقة المجانية للثوار.

وإذا تعبت من الجولة، نل قسطا من الراحة، اجلس على أي رصيف تجده ولا تحمل هم الطعام فليس أكرم من أهل هذه المدينة، فبين لحظة وأخرى ستجد من يقدم لك أنواعا من الشطائر والمعجنات، أو ربما رغيف خبز مع قطع من مثلثات الجبن المطبوخ، ولا تتعجب، إن وجدت هذه الأطعمة تحمل اسم "كنتاكي"!!

بعد الطعام لا مانع من المشاركة في طقوس زارٍ مقام لصرف العفريت المدعو "مبارك".

وإذا ارتفع الاّذان ستجد الاّلاف من سكان المدينة ركعا سجدا بين يدي ربهم، تحفهم حلقات بشرية من شباب تشابكت أيديهم معا، وإذا دققت النظر في تلك الأيادي، فإنك ستجد وشم الصليب عليها.

وإذا كان القداس، فإنك تجد أولئك الركع السجد يتبادلون الأدوار مع إخوانهم من أهل الكتاب.
أما إذا دعيت إلى عقد قران في تلك المدينة، فاعلم أنك واحد من ثلاثة ملايين مدعو، وإذا أردت أن تأخذ صورة مع العروسين فلتكن الخلفية دبابة من طرازM60 !

وإذا عزمت مغادرة المدينة فستسلك طريقا تجد على جانبيه صفوفا من المودعين لك، داعين لك بالسلامة، شاكرين زيارتك، متمنين زيارة أخرى قريبة.
هكذا كانت الحياة في ميدان التحرير، فلا عجب أن ينبثق منه فجر الحرية لشعب أراد الحياة.

على العهد ...

رغم  الاّلام التي كانت تعتصر قلبي بعد مجزرة الأربعاء الدامي، ورغم حالة الإحباط الشديد التي كنت أمر بها، إلا أنني صممت أن أبقى على العهد ، ذلك العهد الذي قطعته على نفسي أن أنتصر لإخواني الشهداء، وأن أبرد قلب كل من يبكي فقيده ، وأن أشفي صدر كل من تجرع كأس الظلم والتعذيب .
إنها ليلة الجمعة الرابع من فبراير، والمسمى بجمعة الرحيل أملا أن يكون يوم رحيل "اللا مبارك".
أعددت نفسي ليلتها ليوم غد - يوم التحدي- تلوت سورة الأنفال، وجعلت أتأمل اّيات القتال و اّيات النصر، وأيقنت أن نصر الله قريب...
نودي للصلاة من يوم الجمعة، سعينا لذكر الله ، ولما قضيت الصلاة خرجنا منفضين إلى ميدان التحرير.
لقد أديت الصلاة في مسجد رابعة العدوية بمدينة نصر، ومن هناك مشيت في مسيرة إلى الميدان، لم أكن أعرف أحدا ممن مشيت معهم في المسيرة ، ولكن قلوبنا تعارفت وائتلفت، فكلنا قلب واحد نحو هدف واحد.
لم يتجاوز عددنا المائة، قطعنا معا طريقا طويلا كان بالنسبة لي من أجمل ما قطعت، كانت روح رائعة تسود بيننا ، ما مررنا على متجر إلا و اشترى أحدنا صناديقا من العصير والمياه المعدنية للجميع، وما مررنا على حفرة أو عقبة في الطريق، إلا ووقف شاب أمامها ينبه المارة حتى تمر المسيرة بأكملها.
كنا نمر بجوار البيوت فنهتف "يا أهالينا انضموا إلينا" فكانوا يؤيدوننا بالهتاف ويلوحون لنا بالأعلام ، ولكن للأسف كان بعض منهم يسبوننا ويتهموننا بالخيانة، بل إن سكان أحد العمارات أرسلوا لجنتهم الشعبيه لمطاردتنا، ولكن لا عجب إنهم قوم مسحورون !!
والأطرف من ذلك أن حافلة مرت بجوار مسيرتنا فقام أحد الركاب بسبنا قائلا " يا ولاد الـ...." ولكن الراكب خلفه صفعه بقوة على قفاه!!! وطبعا انطلقت الحافلة أسرع من خطواتنا فلم نشاهد ما حدث بعد ذلك !!!
وصلنا إلى ميدان رمسيس، وهناك نلنا قسطا من الراحة ، وأدينا صلاة العصر، ثم جلسنا نخطط لعبور النقطة القادمة ، فهي الأشد خطرا حيث ينتشر فيها البلطجية وتسير فيها بعض المظاهرات المؤيدة للنظام.
أعدنا ترتيب سيرنا ، تم تجميع النساء في المنتصف ، في حين أحاط الرجال بهن من جميع الجهات لحمايتهن ، حاول كل فرد أن يحفظ شكل كل من يجاوره من الناحيتين كي لا يندس غريب وسطنا ، أكملنا سيرنا نحو الميدان ، التقينا مسيرة هزيلة جدا تحمل صور "اللامبارك" دون أن ينهك أحد أفرادها صوته بأي هتاف ، وبالرغم من أن أحدا لن يتعرض لهم إلا أنهم كانوا محاطين بعدد من أفراد الشرطة !!
اقتربنا من الهدف ، ورغم الاحتياطات التي اتخذناها ، استطاع اثنان من البلطجية الاندساس بيننا، ولكن شبابنا تنبهوا لذلك سريعا، وأمسكوا بهم وقيدوهم  وسلموهم للجيش .
وأخيرا وصلنا لشارع طلعت حرب ، ميدان التحرير على بعد أمتار ولكن ......
البلطجية حولنا يشهرون سلاحهم علنا ، دخلوا بيننا ، بدأوا يطوقون أشخاصاً منا بحلقات بشرية منهم ويأخذونه ، لقد اختاروا تحديدا كل من كان يحمل كميات من الطعام والدواء إمدادا للمرابطين في الميدان ، ساد الهرج ، بدأتُ أرى حولي وجوها جديدة ، اقتربت ممن أعرف ، تقدمنا في حذر حتى تم منعنا من المرور، فلقد وقف البلطجية أمامنا صفا عرضيا أن لن تمروا..
التفت إلينا الرجال في حين قال أحدهم  "ياريت البنات يرجعوا" لم يكد ذلك الشاب يكمل عبارته حتى أطلق البلطجية النار، انبطح البعض وركض البعض الاّخر ، وبدأت النيران تدوي في كل الاتجاهات ، تفرقنا في ثوانٍ، دخلت أحد الممرات الجانبية راكضة خلف بعض من هربوا، كنت أركض كما لم أركض من قبل ، كنت أركض رافعة صوتي بكلمة التوحيد "لا إله إلا الله" فلربما تصيبني رصاصة من  خلفي فتكون الشهادة اّخر مانطقت .
أعيانا الركض، كدنا نقع أرضا من شدة التعب، أدركنا أننا قطعنا مسافة طويلة وأن الخطر قد زال تقريبا، نظرت في وجوه من حولي فوجدتها وجوها لا أعرفها، لم يكن أحد منهم معي في المسيرة، كانوا ثلاثة فقط من الفتيات اثنتان منهن يعرفان بعضهما البعض، توسمت فيهن خيرا فصحبتهن، خرجنا إلى شارع رئيسي ، التقينا شابا فسألناه كيف نصل إلى الميدان، فوصف لنا طريقا اّمنا وهو المدخل من جهة قصر النيل ، عرفنا بعد ذلك أن هذا هو المدخل الوحيد الاّمن حيث أن الثوار يسيطرون عليه تماما ويؤمنونه جيداً، سلكنا ذلك الطريق الاّمن ووصلنا إلى الميدان، كانت الشمس قد أوشكت على المغيب ، تذكرت أنها الساعة الاخيرة من نهار الجمعة،  ساعة لا يرد الله فيها سائلا، فاتخذت ركنا قصيا وهممت بالدعاء، ولكن انتباهي تشتت مما حدث حولي فجأة، الهتاف يتعالى،  والأعلام ترتفع، وصيحات التكبير تملأ الأجواء..... لقد تنحى مبارك .. يال السعادة، وجدت فتاة ترتمي في احضاني ، وأخرى تقبلني، وأنا أبادلهما الأحضان والقبلات، ولكن سعادتنا لم تدم سوى لحظات .... إنها مجرد إشاعة !!
لم أعرف شيئا عن مصدر هذه الإشاعة، ولا أدري كيف انتشرت بسرعة بين هذه الملايين، ولكن هذا ماحدث!
كم كان تأثير تلك الإشاعة مدمراً، فقد عانقت معنوياتنا عنان السماء، ثم هوت فجأة في مكان سحيق .
امتصصنا الصدمة، وأكملنا الليلة ... كانت ليلة رتيبة للغاية، مرت ساعاتها بطيئة دون أحداث تذكر، طلع الفجر وانتهت جمعة الرحيل دون أن يرحل مبارك .
أشباح اليأس تطاردني ، تكاد تتمكن مني ، ولكنني أفقت على نداءات الثوار وإعلانهم عن أسبوع الصمود، أسبوع جديد من الرباط والكفاح والصبر، سأصمد معهم حتى النهاية، لن أيأس ، وسأبقى على العهد .

ألقاكم في دار الخلود

إخوتي .. أحبتي الأبطال .. يامن قدمتم أرواحكم لأجلنا ... لن أقول أني لن أنساكم ، فلو نسيتكم ما أنقص ذلك منكم شيئا، ولن أقول أني سأعيد إليكم حقكم ، فأي حق تريدونه من الدنيا وقد سكنتم القصور وزوجتم من الحور، فماذا يفيدكم أن أذكركم هاهنا وقد خلدكم الله في جواره ؟
بل أنا من أسألكم أن تذكروني ....
أذكروني يوم الفزع الأكبر ، يوم تبعثون اّمنين مطمئنين ، بعرش الرحمن مستظلين ، أذكروني يوم تشفعون في أهلكم ، فلقد كنت معكم ، مشيت حيثما مشيتم ، ورابطت في الميدان كما رابطتم، ولكن الله اختاركم أنتم للشهادة، وكرمكم على غيركم بما كنتم أخلص و أصدق.
لعل صوت دعائي يصل إليكم هنالك في الملأ الأعلى، أعلم أنكم لا تحتاجون دعائي وقد أغناكم الله من فضله، ولكني أتشرف بالدعاء لكم، ولعلكم تعرفونني يوم القيامة فتشفعون لي.
لكني والله ثم والله لن أنساكم ، والله إني لأقبل أرضا وطأتموها بأقدامكم ، وأمرغ جبيني في ثرى رويتموه بدمائكم ، والله لأكمل طريقا بدأتموه ، فلتنعموا أنتم ولتهنؤا واتركوا لنا مواصلة الكفاح ، فلعل الله يمن علينا بالشهادة يوما كما من بها عليكم .
والله كأني أراكم الاّن تلبسون من سندس وإستبرق ، تسبحون في أنهار الجنة وتطيرون في سمائها ، تستنشقون نسيمها وتستظلون بظلالها، تأكلون من ثمارها وتشربون من عيونها، ترى هل تجدون لي مكاناً في جواركم ؟
أحبتي ... إن نصر الله لاّت ، وسيبقى كل خير يعم على البلاد في ميزانكم أبدا، وسأظل أدعو لكم أبدا أبدا...
كم أحبكم ، وفي شوق إلى لقائكم ، وعسى أن يكون قريبا ............

مكر مفر مقبل مدبر معا .... كجلمود صخر حطه السيل من عل

ليس أبلغ من صدر هذا البيت في وصف ما حدث يوم الأربعاء الدامي، الثاني من فبراير، والذي عرف بعد ذلك بموقعة الجمل.
ليس من الغريب أن تسمى معركة حربية حدثت في عام 36 هجرية بموقعة الجمل، ولا غرابة أيضا في أبيات شعريه نظمها إمرؤ القيس في العصور الجاهلية يصف فيها حصانه بالمكر المفر، ولكن الغرابة كل الغرابة والغباء و العجب أن ترى ذلك الجمل وذاك الفرس في القرن الحادي والعشرين يغزوان أرقى ميادين القاهرة!
يبدوا أن الصمود العظيم لثوار التحرير أمام المدرعات و القنابل و أحدث أسلحة القنص أفقد أباطرة النظام صوابهم ، وأصاب عقولهم بانتكاسة زمنية أعادتهم سنينا إلى الوراء !!
خيل و جمال يعتليها بلطجية همج مسلحون، عصيٌّ و خناجر و حجارة مسنونة، كل هذا لمواجهة عزل مسالمين كانوا في ميدانهم يعكفون، ويمرحون ويغنون، بالحرية يحلمون، ولكن ما أن بُغي عليهم حتى انتفضوا كالأسود ، اقتلعوا الحجارة من الأرصفة ووقفوا في مداخل الميدان يشكلون ما أسموه بالجبهة ، وبدأوا يتساقطون شهداء و جرحى ، ورغم ذلك لم تخلوا الجبهة أبدا، فكلما سقط جريح أو شهيد وقف غيره مكانه غير مكترث لما يرى من قتل ودماء.
استمرت المعركة ساعات طويلة وشهداؤنا يتساقطون ، ومزيد من البلطجية يتوافدون، والقناصة من فوق المباني يقصفون، وبدأت الاستغاثات من أهل الميدان يناشدون الأطباء بالتوجه إلى هناك، وفعلا ورغم كل هذه الأخطار، توافد الأطباء المتطوعون ومعهم عدتهم إلى الميدان ، وأقاموا هناك مستشفيات بإمكانياتهم البسيطة، يعالجون فيها من يستطيعون، ويتصلون بالإسعاف لمن لايتمكنون من علاجه.
وما أن ارتفع اّذان الفجر حتى استوحش الطغاة أكثر وأكثر، وكأنهم عزموا أن لا تطلع الشمس إلا وقد أبادوا أهل الميدان، ولكن لم يكن لهم ما أرادوا، لقد صمد الأبطال حتى أنهكوا أولئك البلطجية، فعادوا مهزومين، و مرة أخرى انتصر الأحرار، وساقوا كثيرا من الغنائم والأسرى.
أما الأسرى، فقد قيدوهم و أودعوهم سجوناً خاصة (محطة مترو الأنفاق) واستجوبوهم ثم سلموهم للجيش، وأما الغنائم ، فماذا تكون غنائم مثل تلك الموقعة سوى سرج أو لجام أو حصان ؟! 

سحرة فرعون و إعلاميو مبارك

لم يتخيل مبارك يوما أن أحدا سواه سيجلس على كرسيه مادام حيا ، فلما نادت الثورة بإسقاطه ، نادى هو في حاشيته يا أيها الملأ ما علمت لكم من رئيس غيري، أليس لي ملك مصر و هذه الأنهار تجري من تحتي ؟
فجمع سحرته الإعلاميين الذين عهدوا أن لهم أجرا إن كانوا هم الغالبين ، و إنهم لمن المقربين، فأجمعوا كيدهم ثم أتوا صفا، فألقوا بكلامهم وبيانهم  وقالوا بعزة مبارك إنا لنحن الغالبون...
أتوا يسحرون الناس بكلامهم، فقالوا عن شباب الثورة أنهم أناس مأجورون،قالوا عن أولئك الأبطال أنهم عابثون،وأنهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وأشاعوا الأكاذيب عن وجبات فاخرة تصل إلى المعتصمين، وعن أجرة ينالونها من قوم مجرمين،قد يكونون
من فتح أو حماس أو ربما إيران أو حتى قوم عاد !
ولفقوا حكايات عن تدريبات أمريكية لقلب النظام، وعن أجندات أجنبيه ستحول مصر إلى حطام ...... 
لقد سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤا بسحر عظيم، فإذا بكثير من الناس يتراجعون و يطالبون الثوار بالرجوع ظانين أنهم بذلك سيعودون إلى الاستقرار الذي فقدوه بسبب الثورة ، ونسوا كل ماكان من الفساد ، نسوا قطار الصعيد و عبارة السلام ، نسوا خالد سعيد و سيد بلال ، بل نسوا شهداء ربما لم يواروا الثرى حتى الاّن ، وراحوا يحاربون الثوار وبدأت الفتنة ، وانقسم الناس ...
ولكن.. بقي من الناس كثير من المؤمنين الذين وإن كانوا قد أوجسوا في نفسهم خيفة إلا أن الله ثبتهم ، فأكملوا طريقهم بثبات يلقف ما يأفكون، إن ما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى .

قف ... أمامك لجنة شعبية !!

انسلخ النهار من ليلة التاسع و العشرين من يناير، نهار عصيب يسبق ليلة أعصب .
لم أكن قد أدركت وقتها مدى خطورة انسحاب الشرطة،عندما خرجت ذلك اليوم قاصدة مستشفى القصر العيني بعد أن علمت أن التمريض هناك بحاجة إلى المساعدة نظرا لكثرة المصابين الذين تم نقلهم إلى هناك جراء اعتداءات رجال الأمن عليهم أثناء التظاهر،فضلا عن احتياجهم الشديد لمتبرعين بالدم .
وصلت إلى قسم الطوارئ  بالمستشفى ،وفوجئت بالأعداد الهائلة من الجرحى الذين لم تعد تسعهم أسرة المستشفى ،وعندها اغرورقت عيناي بالدموع وأنا أرى أولئك الجرحي ينزفون،ويصرخون ألما وهم يُحملون،وظل لساني يلهج بالدعاء على أولئك الظالمين، القتلة المتوحشين حتى وصلت إلى بنك الدم وهناك دمعت عيناي من جديد ، ولكن كانت  دموع الفرح هذه المرة ... فلقد رأيت صفوفا تلو الصفوف من الشباب و الفتيات يقفون كل في انتظار دوره للتبرع بالدم .
وقفت في تلك الصفوف حتي أدركني الدور،استلقيت ومددت ذراعي للطبيب ثم ظللت أرقب في اعتزار ذلك الدم الذي يسحب من عروقي، كم كنت فخورة بأن دمي سيجري في جسد أحد أولئك الأبطال، الذي إن عوفي أكمل الطريق بدمي، وإن نال الشهادة فقد جري دمي يوما في جسد شهيد.
دقت الساعة الرابعة، غادرت المستشفى بسرعة حيث كان حظر التجوال قد بدأ منذ ساعة، الشوارع حولي تكاد تخلو من المارة، المحال التجارية مغلقة، القاهرة - فيما عدا ميدان التحرير- شبه مهجورة، وصلت إلى محطة رمسيس و اسقليت حافلة مع أربعة أشخاص فقط لم ينفكوا يتكلمون عن أعمال النهب و السطو المسلح على البيوت الذي بدأ منذ صبيحة اليوم، بدأ الخوف يتسلل إلي ّ رويداً رويداَ،إلى أن تملكني تماما عندما رأيت مجموعة من الشباب يلوحون بأسلحتهم البيضاء لسائق الحافلة لمجرد أنه حاول التوقف بجوارهم لإنزال أحد الركاب !
كان موقفا عجيبا بالنسبة لي لم أستطع تفسيره، إلا أنه تكرر بعد ذلك مرات ثلاث كان السائق يحاول فيها تهدئه سرعته لإنزال أحد من الركاب، والأدهى و الأمر أن السائق حاول الدخول إلى محطة وقود للتزود، فمنعه من ذلك شباب مسلحون أيضا !!!
عرفت ممن حولي أن هؤلاء الشباب يمثلون ماتم تسميته باللجان الشعبية، فبعد أن انسحبت الشرطة متخلية عن واجبها في حفظ أمن البلاد، بل و أطلقت المجرمين بعد تسليحهم فسطوا على المنازل و المراكز التجاريه، قام الشباب بتشكيل هذه اللجان الشعبية حيث وزعوا أنفسهم حول بيوتهم وفي الشوارع المؤدية إليها حاملين معهم ما تيسر لهم من سلاح كسكاكين المطبخ و عصي خشبية.
اضطر السائق للوقوف في طريق عريض خال من اللجان الشعبية، كان ذلك الطريق هو طريق النصر (الأتوستوراد) بجوار مستشفى المقاولون العرب، وطلب منا جميعا النزول لأنه بكل تأكيد لن يتمكن من استكمال طريقه.
نزلت من الحافلة و أنا أحاول السيطرة على أعصابي لأفكر كيف سأعود إلى البيت، ولكن الأحداث لم تمهلني....
رأيت جموعا عظيمة من البشر لا أكاد أرى اخرهم يركضون قادمين من بعيد، وقفت في مكاني مشدوهة بينما هم يقتربون و يقتربون، حتى تبين لي أنهما فئتان تقتتلان، أو بتعبير أدق تطارد إحداهما الأخرى، ارتعدت فرائضي وأنا أرى أولئك البلطجية وقد عصب أحدهم إحدى عينيه أو اعتلى وجهه ضربة سكين وبدت عليه سمات الإجرام!
استجمعت شجاعتي وركضت باتجاه أحد جنود الجيش الذي كان يقف في الجانب المقابل من الشارع لا يحرك ساكنا رغم ما يحدث حوله، وما أن وصلت إليه حتى قلت له بصوت أعياه الركض والفزع "هاتلي دبابة تروحني البيت حالا"، فابتسم متهكما من بلاهتي وهو يقول "معنديش أوامر بكدة!"، استطردت في ارتياع "إنتا مش شايف الشارع عامل إزاي، أنا هامشي لوحدي إزاي في وسط دول؟"، فأجاب بهدوء "ماتخافيش، ادخلي استني في الكشك ده وأنا هاررّوحك بعد شوية"، دخلت تلك الغرفة المعدنية ذات النوافذ الزجاجية الكبيرة والخاصة بالشرطة العسكرية ودخل معي اثنان ممن كانوا معي في الحافلة.
كانت الشمس قد بدأت بالمغيب ، والوضع يزداد سوءاً، وقفت خلف الزجاج أشاهد أولئك الهمج الذين يضربون بعضهم بالخناجر والسلاسل الحديدية، والجرحى أو ربما القتلى يتساقطون، ثم يسحبون على وجوههم ، جعلت أردد "فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين"، أحسست يشى من الطمأنينة، فتحت الباب وناديت الجندي وسألته أن يتدخل ليحقن الدماء، فأجاب بلهجة اّلية "ماعنديش أوامر بكدة"، فرددت بعصبية "تاني !! انتو حافظين ولا فاهمين؟" فعاود الإجابة بلهجته الاّلية المستفزة "إحنا بنفذ الأوامر"
أغلقت الباب و جلست أنتظر الفرج، ولكنه أتى سريعا، فما هي إلا دقائق وعاد الجندي قائلا "جتلي أوامر بالتحرك من هنا، تعالوا أرّوحكوا قبل أما أمشي"، خرجنا خلفه، استوقف لنا سيارة أجرة -لا أدري من أين ظهرت في مثل هذه الأجواء- وطلب من السائق أن يوصل ثلاثتنا رغم اختلاف اتجاهاتنا، ركبنا السيارة، وكنت أنا أسعدهم حظا لأن اتجاهي هو الأقرب من تلك النقطة، انطلقت بنا السيارة عبر طريق الأوتوستوراد حتى وصلنا إلى شارع متفرع منه يؤدي إلى منزلي فوجدناه مغلقا بحواجز حديدية خلفها شباب يحملون العصي والأسلحة البيضاء، إنها اللجان الشعبية مرة أخرى!! حاول السائق الدخول من شارع اّخر ولكن لا جدوى، القصة نفسها تكررت في شوارع مختلفة وعندها اضطررت للنزول من السيارة وأبرزت هويتي وطلبت منهم أن يسمحوا للسائق بالمرور، استجابوا لطلبي وأزاحوا الحواجز، ولكنها كانت المفاجأة!! وجدنا أن الشوارع الجانبية لا يخلوا فيها تقاطع واحد من لجان شعبية أخرى، من جديد طلبت منهم أن يسمحوا للسائق بالمرور ولكنهم رفضوا هذه المرة، وأجابني أحدهم "لو عايزة إنتي تدخلي إنزلي من التاكسي وكملي مشي ، بس مش هنخلي التاكسي يعدي"، تخوفت كثيرا من ذلك خاصة وأن الظلام كان قد أطبق تماما والجو المحيط قمة في الرعب، فرأف بحالي أحد الشباب وقال لي "إنزلي وأنا هامشي معاكي لحد البيت"، لم يكن لدي خيار اّخر، خرجت من السيارة ومشيت معه، سألني عن اسم الشارع الذي أقطن فيه فأجبته، لم يكن بعيدا عن تلك النقطة التي كنا فيها، ولكنه اقترح أن نذهب إلى هناك من طريق اّخر أبعد قليلا ولكنه حسب زعمه مؤمن جيدا، أو على حد تعبيره "أنا اللي أمنته بنفسي"، وطبعا اضطررت للموافقة ومشيت معه.
لم أكن أستطيع مجاراة خطواته السريعة، كنت أمشي خلفه لا أكاد ألتقط أنفاسي.
مررنا على عدة لجان شعبيه كان يعرفهم جميعا فردا فردا، لم أحتج إلى إبراز هويتي لأحدهم لأنه كان يقول لهم "تبعي". 
بدأ يحدثني بزهو شديد عن تزعمه لكل هؤلاء، بصراحة أحسست أنه كان "ِبِيعَرّضها" خصوصاً عندما بدأ يلقى الأوامر كلما مرّ على لجنة ما، أي أوامر فارغة، فقط للاستعراض أمامي !
ظللت ملتزمة الصمت وأنا أسير خلفه حتى اتصلت بي أمي تقول لي بصوت مرتعد "أوعي تيجي البيت دلوقتي، الشارع بتاعنا في ضرب نار"، فعلا لقد كنت أسمع أصوات العيارات النارية لكني لم أعرف أنها من شارعنا، عندها وقفت في ذعر وقلت لذلك الشاب الذي عرفت فيما بعد أن اسمه "أحمد" :"شارع أنور المفتي في ضرب نار!!" وبالرغم من أن الظرف لم يكن يسمح بذلك على الإطلاق إلا أن أحمد التفت إلى شباب اللجنة الشعبية  المجاورين وقد وجدها فرصة عظيمة لمزيد من استعراض زعامته وصرخ يشدة "شفتو عشان مابتسمعوش كلامي حصل إيه، أهو أنور المفتي في ضرب نار، قلتلكوا إعملو اللي أقول عليه" ولكنهم نظروا إليه شزرا في حين قال أحدهم ملوحا له بكلتا يديه "بالراحة يا عم، إنتا بتزعق كدة ليه؟!" 
أشاح عنهم بوجهه وقال لي "مش مشكلة، تعالي عندنا في البيت لحد ما الوضع عندكو يهدى"، نظرت إليه بحيرة  وعجزت عن الرد، فأضاف "ماتخافيش مراتي قاعدة لوحدها في البيت، أقعدي معاها شوية لحد ما الدنيا تهدى" وكالعادة كنت مضطرة للموافقة، سرت معه عكس اتجاهي حتى وصلنا إلى منزله، فتح بوابة ساحة المنزل فإذا بوالده أمامنا يرقبني بظرة فاحصة، ولكن ابنه لم يمهله أن يسأله من هذه فبادر على الفور قائلا "دي واحدة ساكنة في أنور المفتي بس مش عارفة توصل بيتها عشان في ضرب نار في شارعهم"، حافظ الأب على نظرته الفاحصة ولم يعلق في حين أطلت سيدة شابه من النافذة وقد سمعت الحوار وقالت بصوت أقرب إلى الصراخ "مين دي يا احمد ؟ أنا مش هادخلها بيتي!!!"
والعجيب أن أحمد الذي كان يتزعم اللجان الشعبية منذ دقائق لم ينبس ببنت شفة أمام صراخ زوجته الذي بدأ يتعالى أكثر وأكثر وهي تقول "مش هادّخل حد ما اعرفوش، خليها تروح عند أم سعد" طبعا فهمت أن أم سعد هذه هي "مرات البواب" ولكن من الواضح أن حتى هذا الحل لم يعجب الأب، فأشار إلى كرسي خشبي متهالك خارج ساحة المنزل وقال "ممكن تعدي هنا"، نظرت إلى أحمد الذي كان واقفا أمامي يوليني ظهره ، لا يجرؤ طبعا إلى الالتفات إلى، ثم أجبت الأب "لا شكرا ياحاج"، ووليت مسرعة، كان هذا الموقف قد أعطاني طاقة عجيبة، نسيت التعب ومشيت بخطوات سريعة ثابتة في اتجاه منزلي وليكن مايكون، حتى قابلني شيخ وقور فسألني "رايحة فين يابنتي؟" فأجبت "أنا راجعة البيت في أنور المفتي" فقال "لأ بلاش تروحي هناك دلوقتي، تعالي اطلعي عندنا في البيت" فصرخت بقوة "لأ!!!" ثم استدركت الموقف وقلت بهدوء "معلش ياحاج لازم أرجع البيت"، فابتسم قائلاً "يابنتي مافيهاش حاجة، تعالي عندنا شوية بس"، فأجبت بإصرار "لأ معلش أنا عايزة أرجع البيت"، فما كان منه إلا أن صحبني إلى البيت بعد أن استدعى ثلاثة من الشباب يسيرون خلفنا لحماية ظهورنا حتى وصلنا إلى البيت بسلام، وما أن أخرجت مفاتيح بوابة المنزل حتى قال لي ذلك الشيخ وشبابه الثلاث نستودعك الله، شكرتهم بشدة ودعوت لهم جميعا.
كنت أتنفس الصعداء وأنا أدخل المفتاح في مجراه لأفتح البوابة، ولكني تسمرت عندما رأيت على زجاج البوابة ظلا لشخص طويل القامة يحمل عصا غليظة قادما خلفي، فصرخت ولكنه لم يمهلني، فلقد ألجم فمي بكفه قائلا "هششش... أنا محمد" ..... يا إلهي ..إنه محمد أخي !!... "انتا لسة جاي من التحرير؟"، أجاب بعصبية شديدة " بس .. إطلعي دلوقتي"، أغلق البوابة خلفي ثم عاد للوقوف مع جيراننا في لجنتنا الشعبية.
وأخيراً أنا في غرفتي ... صليت المغرب فالعشاء ثم أويت إلى الفراش، ورغم الإعياء الشديد الذي كنت أعانيه، لم يغمض لي جفن.
لقد أمضى شباب اللجان الشعبية الليلة واقفين حول بيوتهم وقد اتفقوا على علامات بينهم لإعلان وقوع الخطر، فما أن يقترب منهم شخص غريب حتى يرفعوا أصواتهم بالصفير لاستدعاء اللجان الأخرى، وإذا ما تأكدوا من خطورته فإنهم يطرقون أنابيب المياه الموصلة للبيوت حتى يوقظو أهلها استعدادا لمواجهة الخطر! وكنت كلما غفوت لحظة أفقت على أصوات الصفير وطرق الأنابيب.
لقد كانت بحق ليلة ليلاء، أدركت فيها معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم "من بات آمنا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها"

" بلاها أمن .... خدو بلطجية !! "

بعد الانتصار العظيم الذي حققه الثوار، وبعد صمودهم أمام القنابل المسيلة للدموع و المدرعات، بل و الرصاص الحي ، و بعد أن سيطروا على ميدان التحرير ، أدركت قوات الأمن أن الأمر على وشك الخروج عن السيطرة ، فاستعانت بالقوات المسلحة للسيطرة على الوضع .
في البدايه بدا الأمر مريبا .... هل سيتواطأ الجيش مع النظام ؟هل سيتعامل بالعنف مع الثوار؟ ولكن سرعان ما اتضحت الأمور ، فقد انتشرت الدبابات في ميدان التحرير، و أحاطت مداخله دون أي احتكاك مع المعتصمين الذين بدأوا بدورهم  يحاورون جنود الجيش و قد نشأت بينهم علاقة ودية خاصة بعدما أيقن الثوار أن الجبش لن يكون ضدهم أبدا .
انتهت جمعة الغضب وقد سقط فيها كثير من الشهداء و كثير من الجرحى ، و بات الثوار في حماية الجيش بعد أن أحسوا بشيء من الاطمئنان ، ولكن أحدا لم يكن يعلم أنهم بدأوا يلعبون لعبتهم الدنيئة "بلاها أمن ، خدو بلطجية "
أشرقت شمس يوم جديد من تلك الأيام ، لقد كان فعلا يوما جديدا من نوعه ، فلقد أضاءت الشمس شوارع القاهرة  بعد أن تحولت إلى ثكنات عسكرية و قد اكتظت بالدبابات المتراصة على جوانبها ، في الوقت نفسه الذي خلت فيه تلك الشوارع من الشرطة حتى من رجال المرور،
و تم إطلاق سراح المسجونين ليعثوا في الأرض مفسدين ، و فعلا بدأت عمليات السلب و النهب .... إنها اللعبة الدنيئة ذاتها التي لعبها النظام التونسي البائد ، لم تتمكن قوات الأمن من إخماد الثورة فلجأت إلى البلطجية ... الأحداث نفسها تتكرر و بنفس التسلسل ، أتواصوا به ؟ بل هم قوم طاغون  ... و لأنهم قوم طاغون  كان تدبيرهم  السبب في تدميرهم ، ولكن بعد حين ...

وأخيراً ... زفت

أخيرا، وبعد كل تلك الأحداث الرهية، وبعد كل تلك المعارك الدامية، وبعد سقوط مئات الشهداء، أخيرا بعد كل ذلك .... ظهر"زفت"
ظهر من كنا نطالب برحيله و إسقاط نظامه طيلة تلك الأيام الماضية.
تلك الأيام التي سلط فيها جنوده على شعبه يقتلون فريقا ويأسرون فريقا...
تلك الأيام التي أثبت فيها أمام العالم أنه مجرم سفاح...
تلك الأيام التي أثبت فيها شعب مصر أنه أعظم شعوب الأرض...
أخيرا ظهر مبارك متحدثا بعد كل ذلك متخيلا أن خطابه سيكون الصابونة المنعشة التي ستغسل اّثار كل مامضى ...
ظهر دون أن يعتذر عن دم شهيد ، ودون أن يعترف بثورة تطالب بإسقاطه، ظهر يعلن إقالته للحكومة وعدم نيته للترشح مرة أخرى ، متجاهلا أنه هو أصل الفساد ، وأن كل حكومة يرأسها أو يختارها ستبقى بذات الفساد ، ثم راح يجترأمجاده القديمة، ولم ينسى ذلك التمساح أن يستثير عواطف البسطاء بتمنيه أن يموت و يدفن في وطنه الذي طالما عاش لخدمته ...
تلك أمانيك يا فرعون ولكن هيهات هيهات ، إن أردت أن تموت هنا فلتمت ذليلا بعد أن تعيش طريدا ، فلم يعد لك على أرضنا مكان .

اقتلوني..مزقوني..لن تعيشوا فوق أرضي.. لن تطيروا في سمائي

كان هذا لسان حال ذلك الشاب و هو يتقدم بمنتهى القوة و الشجاعة ليقف أمام رجال الشرطة اللذين يحاصرون المكان و يهددون أمن أهله المتظاهرين بسلام ، وقف كاشفا صدره أمامهم أن أن اقتلوني إن أردتم ولكن اعلموا أننا مسالمون ، اقتلوني إن أردتم  ولكننا لن نعود إلى الخضوع  ، لن نترك لكم  أرضنا لتعثوا فيها مفسدين ...
و بكل وحشية ، وبمنتهى الإجرام ... أطلق عليه رجال الشرطة  النار ، صوبوا رصاصة في صدره فأردوه قتيلا ، بل شهيدا عظيما  نال الشهادة مقبلا غير مدبر .
لقد صعدت روحه إلى السماء لكن دماءه بقيت على الأرض لعنة عليكم أيها الجبناء .

صاحب النقب و قاهر المدرعة

يحكى أن الأمويين  حاصروا حصنا في إحدى غزواتهم إلا أن هذا الحصن لم يفتح، فقام قائد الجيش (مسلمة بن عبد الملك) مناديا.. من منكم سيدخل النقب (وهي فتحة إلقاء الفضلات والقاذورات إلى الخارج) فإن كتبت له الشهادة فاز بالجنة وإن كتبت له النجاة ذهب لباب الحصن فيفتحه ويكبر فيدخل جند الإسلام منتصرين بإذن الله.
فخرج رجل ملثم وقال أنا من سيدخل النقب.
تقدم الرجل من الحصن ودخل النقب وسمع المسلمون صوت التكبير ورأوا الباب يفتح فدخلوا وفتحوا الحصن.
يقف قائد المسلمين وينادي صاحب النقب ليخرج له.. إلا أنه لم يخرج أحد.. فيقف في اليوم التالي وينادي.. ولكن أحدا لم يخرج.. فيقف في اليوم التالي ويقسم على صاحب النقب بأن يأتيه في أي وقت يشاء من ليل أو نهار.
وبينما القائد جالسا في خيمته إذ يدخل عليه رجل ملثم.. فيقول مسلمة: هل أنت صاحب النقب.. فيرد الرجل: أنا رسول منه وهو يشترط ثلاثة شروط حتى تراه.. فقال مسلمة: ما هي.. فقال الرجل: أن لا تكافئه على فعله، وأن لا تميزه عن غيره من الجند، وأن لا ترفع اسمه للخليفة.. فقال مسلمة: له ما طلب.. فأماط الرجل اللثام وقال أنا صاحب النقب.
فكان مسلمة يدعوا بعدها: "ربي احشرني مع صاحب النقب"
هكذا فعل قاهر المدرعة ... ذلك الشاب الذي تقدم نحو المدرعة التي تتجه مسرعة نحو المتظاهرين لترويعهم  و ترشهم بالماء لتفريقهم ، ففي حين ابتعد الجميع و تنحوا جانبا ، وقف هو بكل شموخ أمام تلك المدرعة مجبراً إياها على التوقف بل و اعتلاها أيضا و قام بتغيير وجهة مدفع الماء  ، كم شجع عمله هذا كثيرا من الناس على الإقدام ، فكأنه فتح باب الحصن عندما أثبت للطغاة أن سنواجهكم في مدرعاتكم أو حصونكم .
و بالرغم  من أن صورة هذا الشاب أمام تلك المدرعة أصبحت رمزاً من رموز أحداث الخامس والعشرين من يناير إلا أننا لم نرى وجه ذلك الشاب و لم نعرف من هو حتى الاّن، ولكن يكفيه أن يكون كصاحب النقب .

كوكا كولا ... الراعي الرسمي لثورة 25 يناير

العبور إلى التحرير

 
ما بين أسد و أسد عبر الأسود الأحرار ، وفوق أطول الأنهار بدأت مسيرة الثوار.
اشهد يا نهر النيل العظيم كيف عبر أبطال مصرمن فوقك في طريقهم إلى الحرية ، و لتسجل أيها التاريخ بسالة جند قلما سطرت في صفحاتك ... إنهم جند الحق ... جنود عزل إلا من الإيمان، تقدموا يواجهون المدرعات والقنابل المسيلة للدموع ، بل واصطفوا كبنيان مرصوص  ليقيموا الصلاة وسط الهجوم  بمدافع المياه ، سجدوا لله تاركين ظهورهم عارية و قد ألجؤها إلى الله ، هاهم أولاء ينهون صلاتهم بطمأنينة رغم ما أحاط بهم ، ويتقدمون و يواجهون جنودا ركبانا ومسلحين ، ولكن الرعب صيرهم فئراناً هاربين ، هاهم يتراجعون ،على أعقابهم ينكصون، وجندنا جند الحق يتقدمون ويتقدمون و يجبرونهم على التقهقر والخضوع  ، رغم أنهم مسلحون، و المدرعات هم يعتلون ....... لكنهم في صدورهم لا يحملون .. حباً لوطن فلا موت يهون .
و انتصر الأحرار ... عبروا جسر قصر النيل، وواصلوا طريقهم إلى الميدان ...  

كيف تثور بحدائة !!!
















وطبعا "الحدِء" يفهم أن المصطلح الوارد في العنوان بغض النظر عن الخطأ الإملائي، هو من "الحداءة" وهو مصدر لا فعل له و لكن الصفة منه هي "حِدِء" بكسر الفاء و الدال وفقا لقواعد اللهجة المصرية !
وفي اللغة العربية ، نجد كلمة مشابهة في اللفظ مختلفة إلى حد ما في المعنى، وهي "الحذاقة" وتعني الذكاء ، الفطنة ، الفهم ....

خروجاً من معجم الصحاح و عودة إلى ذلك المنشور الطريف والذي بدأ انتشاره يتزايد في السابع و العشرين من يناير حيث تحولت المظاهرات إلى ثورة . 
فلم تعد المطالب وظيفة أو معاشا أو رغيف خبز، ولم تعد الهتافات سوى "الشعب يريد إسقاط النظام"
أما النظام ، فلجأ كعادته إلى العنف و القوة ، و أما الشعب ، فاستعان بخبرات السابقين في مواجهة هذا العنف ، فهاهم إخواننا في غزة -أهل الجهاد و الرباط - يرسلون إلينا طرق صناعة قنابل المولوتوف ، وأساليباً لتعطيل المدرعات ، ويؤازروننا بالدعاء و بأقوى عبارات التشجيع ، وهاهم أسلافنا في تونس -السابقون الأولون- يرسلون إلينا وسائل للوقاية من القنابل المسيلة للدموع ، و ينقلون إلينا خبراتهم ، و يحمسوننا واصفين لنا حلاوة النصر.

و لأن الإنسان المصري من الكائنات ذوات الدم الخفيف ، فإنه لا يفوته حتى في مثل هذه المواقف الجادة أن يُصدر منشوراً يصاب قارئه بنوبة من الضحك ، خاصة عندما يصل إلى "غطا الحلة" ، أو إلى تلك الوردة التي سيمسكها في يده مع عدة القتال (عشان يبقى عمل اللي عليه!) ، ناهيك عن قانون الطوارئ بالقاف ، و إنقاذ بالظاء ، وتحيا مصر بالألف المقصورة !
 و الحقيقة أن مصر لا تحيا بألف مقصورة أو ممدودة ، وإنما تحيا بثوارها الـ"حدئين"!!!

الطريق إلى الميدان

ميدان التحرير... قلب القاهرة ، أصبح قبلة الأحرار ، فهاهم المتظاهرون حيثما كانوا يولون وجهتهم شطره ، وهاهم رجال الأمن يعترضونهم  و يؤذونهم  و يعتقلون منهم ، ولكن أولئك الأحرار لا يأبهون، نحو قبلتهم يتقدمون ، وقد عزموا ألا يثنيهم ضرب و لا قصف ولا زج  في السجون.
وصل الأبطال إلى ميدان التحرير، ووقفوا معتصمين أن لن نبرح الأرض حتى تلبوا مطالبنا و تعيدوا لنا كرامتنا ، إنا هاهنا قاعدون.. 
وخيم الظلام ... ولكنهم ماكثون ، اشتد البرد ... فأوقدوا ناراً يصطلون ، ولا يزالون بحقوقهم يطالبون ، ولكن أعداء الحق لا يسمعون ولا يبصرون ، بل لا يعقلون ... إنهم ميتون .. ميتوا المشاعر و القلوب ، لقد استوحشوا في فض ذلك الاعتصام السلمي بمنتهى العنف و الجبروت ، لقد فرقوا الجموع ، وأخرجوا المعتصمين بالإرهاب و قوة السلاح .
و ما أن انتصف الليل حتى خلا الميدان ، إلا من بعض من اختبأ في الممرات الجانبية ، وقد أصيب من أصيب و اعتقل من اعتقل .... 
وظن الذين ظلموا أنهم غلبوا ولكنهم لا يعلمون أن جند الحق لا يغلبون ، وأنهم إليهم عائدون .... عائدون ثوارا لا متظاهرين .

يوم ليس كالأيام ...

هكذا بدأت أنا تلك الأيام عندما كتبت هذه العبارة " إن موعدكم الصبح ... أليس الصبح بقريب " في صفحة الـ facebook الخاصة بي ليلة الخامس و العشرين من يناير ، كتبتها موجهة إلى حكومة الفساد بعد أن عزم شباب مصر الأحرار الخروج إلى الشوارع في ذلك اليوم متظاهرين ضد الظلم والفساد.
لم يدر بخلد أحد أن الخامس والعشرين من يناير والذي كان يتزامن مع مايسمى بعيد الشرطة سيكون تاريخا لبداية ثورة عظيمة تنتزع هي حق الاحتفال بذلك اليوم .
خرجت يومها و أنا أعلم أني قد لا أعود .. رتبت غرفتي .. تركت وصيتي .. وكتبت رسالة نصية قصيرة محتواها "تم القبض على" لتكون جاهزة للإرسال إلى عدة أرقام كان قد تم نشرهاعلى الـ  facebook ... جهزت حقيبتي ، بطاقتي الشخصية ، مبلغ من المال و طبعا كمية من ساندوتشات الفول و الطعمية !!!
وانطلقت ....
لقد بدا اليوم عاديا بغض النظرعن  بعض سيارات الأمن المركزي التى تراصت في عدة شوارع رئيسية كان قد تم الاتفاق على جعلها مراكزاً لتجمع المتظاهرين ، وفي تمام الثانية ظهرا بدأ الشباب بالتجمع ثم الهتاف و الهتاف و زادت الأعداد و تعالت الأصوات و تضاعفت أعداد جنود الأمن المركزي الذي شكلوا حلقات بشرية لتطويق المظاههرين و لكنهم لم يأبهوا ، و ظلوا يتابعون هتافهم و يحثون المارة على الإنضمام ، ليس المارة فقط ، بل و المتفرجين من النوافذ الذين تباينت ردود أفعالهم مابين مشجع ( لكن من فوق بس ) وبين منزعج ينظر باشمئزاز لسان حاله يقول "غورو يا شوية صيّع قلقتونا يوم الأجازة...ابقو قابلوني لو عملتو حاجة"
وكانت هذه الفئة الأخيرة غالبا من كبار السن اللذين لم يكتفوا بنظراتهم المشمئزة عندما طال وقت التظاهر بل أخذوا يشتمون الشباب بل و يلقون عليهم الماء أيضا !
لم نلق بالاً لمعارضة أهل النوافذ و جعلنا نهتف بكل حماس " اّه يا حكومة هز الوسط .. أكلتينا العيش بالقسط " ، " كيلو العدس بعشرة جنيه .. و متر مدينتي بنص جنيه " ، " يا حرية فينك فينك .. أمن الدولة بينا و بينك .. يا حرية فينــ ....... و فجأة ... و بمنتهى الغدر .....
اندفع جنود الأمن المركزي بعصيهم يوزعون من يمسكونه ضربا و ركلا ثم يسحبونه و يكبلونه و يلقونه في سياراتهم .
ركض المتظاهرون في كل الاتجاهات ، و تدافعوا و تدافعوا ... كنت وقتها أحاول الوصول إلى أحد جانبي الشارع لكنني وقعت أرضا من شدة التدافع و كُسرت نظارتي ، و بينما كنت أحاول النهوض و جدت شاباً ملقاً على الأرض و قد انقض عليه ثلاثة من جنود الأمن يضربونه بأقدامهم وعصيهم ، وهنا أغمضت عيناي  وانتظرت عصاً تهشم رأسي ، و لكن سرعان ما فتحت عيناي  ونهضت و قد أدركت أنهم لن يتعرضوا للنساء - أو هكذا اعتقدت -  وعندها وقفت بكل بسالة أمام أولئك الجنود اللذين كادو يحطمون عظام ذلك الشاب  و صرخت في وجوههم بقوة " سيبووووه ... حرام عليكم ... ربنا أكبر منكم .. قادر ياخدكم كلكم ... حرام عليــ...
 وإذا بهم ينظرون إلى و يرفعون عصيهم لضربي ،  وقتها كنت على يقين بأن الجبن هو سيد الأخلاق ، وركضت هاربة أقول في نفسي " و انا اللي كنت فاكراهم مش هيمدو إيدههم على بنات !" ... قلتها و أنا اّوي إلى ركن ألتقط فيه أنفاسي ، و بأصابع مرتجفة استخرجت هاتفي من جيبي لأحاول التقاط بعض الصور لما أراه أمامي من انتهاكات ، و ما أن وجهت عدسة الكاميرا حتى رأيت فتاتاً تبعدني بحوالي متر ترتدي الألوان الثلاثة الممثلة لعلم مصر تحاول هي أيضا التصوير ، و إذا بجنود الأمن يهجمون عليها ، وعندها..  لم يكن الجبن سيد الأخلاق ، بل كنت أنا سيدة الجبناء !!!
خبأت هاتفي و ركضت مبتعدة ثم اختبأت ...  وقفت أنظر من طرف خفي إلى الشباب الذين يسحبون على الأرض ويضربون ، و إلى الجموع التي تفرقت ، و إلى الشوارع التي كانت مكتظة منذ لحظات بشباب حر أبيّ ، مفعم بالحماس ، يتطلع إلى مستقبل أفضل  وقد أصبحت خاوية على عروشها إلا من بعض الجرحى اللذين يُقتادون في دمائهم إلى ما يسمى بسيارة الترحيلات .
لقد هدأ الشارع تماما ، و أغلقت المحال التجارية ، و رحل الجميع..
لقد أجهضوا مظاهرتنا... لقد اغتالوا أحلامنا ...
كنت أعود أدراجي بخطوات ضعيفة بائسة عندما تلقيت مكالمة هاتفية علمت منها أن جموعاً من المتظاهرين خرجوا من الشوارع المتفق عليها و توجهوا نحو ميدان التحرير، ومن هنا بدأت الحكاية ... حكاية عزة و كرامة و إباء ... حكاية كان بطلها ميدان التحرير..